في حقيقة الوجد أعنى الصوفية
صفحة 1 من اصل 1
في حقيقة الوجد أعنى الصوفية
في حقيقة الوجد أعنى الصوفية والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السماع للأرواح فلننقل من اقوالهم الفاظا ثم لنكشف عن الحقيقة فيه أما الصوفية فقد قال ذو النون المصري رحمه الله في السماع انه وارد حق جاء يزعج القلوب إلى الحق فمن أصغى إليه بحق تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق فكأنه عبر عن الوجد بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذي يجده عند ورود وارد السماع إذ سمى السماع وارد حق وقال أبو الحسين الدراج مخبرا عما وجده في السماع الوجد عبارة عما يوجد عند السماع وقال جال بي السماع في ميادين البهاء فاوجدني وجود الحق عند العطاء فسقاني بكأس الصفاء فادركت به منازل الرضاء واخرجني إلى رياض التنزه والفضاء وقال الشبلي رحمه الله السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة فمن عرف الاشارة حل له استماع العبارة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية وقال بعضهم السماع غذاء الأرواح لأهل المعرفة لأنه وصف يدق عن سائر الأعمال ويدرك برقة الطبع لرقته وبصفاء السر لصفائه ولطفه عند أهله وقال عمرو بن عثمان المكي لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنه سر الله عند عباده المؤمنين الموقنين وقال بعضهم الوجد مكاشفات من الحق وقال أبو سعيد بن الأعرابي الوجد رفع الحجاب ومشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ومحادثة السر وايناس المفقود وهو فناؤك من حيث أنت وقال أيضا الوجد أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب فلما ذاقوه وسطع في قلوبهم نوره زال عنهم كل شك وريب وقال أيضا الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والاسباب لأن النفس محجوبة بأسبابها فإذا انقطعت الأسباب وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفا ونجحت الموعظة فيه وحل من المناجاة في محل قريب وخوطب وسمع الخطاب بأذن واعية وقلب شاهد وسر ظاهر فشاهد ما كان منه خاليا فذلك هو الوجد لأنه قد وجد ما كان معدوما عنده وقال أيضا الوجد ما يكون عند ذكر مزعج أو خوف مقلق أو توبيخ على زلة أو محادثة بلطيفة أو إشارة إلى فائدة أو شوق إلى غائب أو اسف على فائت أو ندم على ماض أو استجلاب إلى حال أو داع إلى واجب أو مناجاة بسر وهو مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن والغيب بالغيب والسر بالسر واستخراج مالك بما عليك مما سبق للسعي فيه فيكتب ذلك لك بعد كونه منك فيثبت لك قدم بلا قدم وذكر بلا ذكر إذ كان هو المبتدئ بالنعم والمتولى وإليه يرجع الأمر كله فهذا ظاهر علم الوجد وأقوال الصوفية من هذا الجنس في الوجد كثيرة وأما الحكماء فقال بعضهم في القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالالحان فلما ظهرت سرت وطربت إليها فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر وقال بعضهم نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأي واستجلاب العازب من الافكار وحدة الكال من الافهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح في كل رأى ونية فيصيب ولا يخطىء ويأتي ولا يبطىء وقال آخر كما أن الفكر يطرق العلم إلى المعلوم فالسماع يطرق القلب إلى العالم الروحاني وقال بعضهم وقد سئل عن سبب حركة الأطراف بالطبع على وزن الألحان والإيقاعات فقال ذلك عشق عقلي والعاشق العقلي لا يحتاج إلى أن يناغي معشوقه بالمنطق الجرمي بل يناغيه ويناجيه بالتبسم واللحظ والحركة اللطيفة بالحاجب والجفن والإشارة وهذه نواطق أجمع إلا أنها روحانية وأما العاشق البهيمي فإنه يستعمل المنطق الجرمي ليعبر به عن ثمرة ظاهر شوقه الضعيف وعشقه الزائف وقال آخر من حزن فليسمع الألحان فإن النفس إذا دخلها الحزن خمد نورها وإذا فرحت اشتعل نورها وظهر فرحها فيظهر الحنين بقدر قبول القابل وذلك بقدر صفائه ونقائه من الغش والدنس والأقاويل المقررة في السماع والوجد كثيرة ولا معنى للاستكثار من إيرادها فلنشتغل بتفهيم المعنى الذي الوجد عبارة عنه فنقول إنه عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد حق جديد عقيب السماع يجده المستمع من نفسه وتلك الحالة لا تخلو عن قسمين فإنها إما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هي من قبيل العلوم والتنبيهات وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم بل هي كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والاسف والندم والبسط والقبض وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقويها فإن ضعف بحيث لم يؤثر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسم وجدا وإن ظهر على الظاهرسمى وجدا إما ضعيفا وإما قويا بحسب ظهوره وتغييره للظاهر وتحريكه بحسب قوة وروده وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوة الواجد وقدرته على ضبط جوارحه فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغير الظاهر لقوة صاحبه وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحل عقد التماسك وإلى معنى الأول أشار أبو سعيد بن الأعرابي حيث قال في الوجد إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ولا يبعد أن يكون السماع سببا لكشف ما لم يكن مكشوفا قبله فإن الكشف يحصل بأسباب منها التنبيه والسماع منبه ومنها تغير الأحوال ومشاهدتها وإدراكها فإن إدراكها نوع علم يفيد ايضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود ومنها صفاء القلب والسماع يؤثر في تصفية القلب والصفاء يسبب الكشف ومنها انبعاث نشاط القلب بقوة السماع فيقوى به على مشاهدة ما كان تقصر عنه قبل ذلك قوته كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله وعمل القلب الاستكشاف وملاحظة أسرار الملكوت كما أن عمل البعير حمل الأثقال فبواسطة هذه الأسباب يكون سببا للكشف بل القلب إذا صفا ربما يمثل له الحق في صورة مشاهدة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبر عنه بصوت الهاتف إذا كان في اليقظة وبالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة وذلك كما روى عن محمد بن مسروق البغدادي أنه قال خرجت ليلة في أيام جهالتي وأنا نشوان وكنت أغنى هذا البيت بطور سيناء كرم ما مررت به إلا تعجبت ممن يشرب الماء فسمعت قائلا يقول وفي جهنم ماء ما تجرعه خلق فأبقى له في الجوف أمعاء قال فكان ذلك سبب توبتي واشتغالي بالعلم والعبادة فانظر كيف أثر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثل له حقيقة الحق في صفة جهنم في لفظ مفهوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر وروى عن مسلم العباداني انه قال قدم علينا صالح المري وعتبة الغلام وعبد الواحد بن زيد ومسلم الأسواري فنزلوا على الساحل قال فهيأت لهم ذات ليلة طعاما فدعوتهم إليه فجاؤا فلما وضعت الطعام بين أيديهم إذا بقائل يقول رافعا صوته هذا البيت وتلهيك عن دار الخلود مطاعم ولذة نفس غيها غير نافع قال فصاح عتبة الغلام صيحة وخر مغشيا عليه وبكى القوم فرفعت الطعام وما ذاقوا والله منه لقمة وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب فيشاهد أيضا بالبصر صورة الخضر عليه السلام فإنه يتمثل لأرباب القلوب بصور مختلفة وفي مثل هذه الحالة تتمثل الملائكة للأنبياء عليهم السلام إما على حقيقة صورتها وإما على مثال يحاكي صورتها بعض المحاكاة وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام مرتين في صورته وأخبر عنه بأنه سد الأفق حديث رأى جبريل عليه السلام مرتين في صورته فأخبر أنه سد الأفق متفق عليه من حديث عائشة وهو المراد بقوله تعالى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالافق الأعلى إلى آخر هذه الآيات وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الاطلاع على ضمائر القلوب وقد يعبر عن ذلك الاطلاع بالتفرس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله حديث اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال حديث غريب وقد حكى أن رجلا من المجوس كان يدور على المسلمين ويقول ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فكان يذكر له تفسيره فلا يقنعه ذلك حتى انتهى إلى بعض المشايخ من الصوفية فسأله فقال له معناه أن تقطع الزنار الذي على وسطك تحت ثوبك فقال صدقت هذا معناه وأسلم وقال الآن عرفت أنك مؤمن وأن إيمانك حق وكما حكى عن إبراهيم الخواص قال كنت ببغداد في جماعة من الفقراء في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه فقلت لأصحابي يقع لي أنه يهودي فكلهم كرهوا ذلك فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم وقال أي شيء قال الشيخ في فاحتشموه فألح عليهم فقالوا له قالإنك يهودي قال فجاءني وأكب على يدي وقبل رأسي وأسلم وقال نجد في كتبنا أن الصديق لا تخطىء فراسته فقلت أمتحن المسلمين فتأملتهم فقلت إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة لأنهم يقولون حديثه سبحانه ويقرءون كلامه فلبست عليكم فلما اطلع على الشيخ وتفرس في علمت أنه صديق قال وصار الشاب من كبار الصوفية وإلى مثل هذا الكشف الاشارة بقوله عليع السلام لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء حديث لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء تقدم في الصوم وإنما تحوم الشياطين على القلوب إذا كانت مشحونة بالصفات المذمومة فإنها مرعى الشيطان وجنده ومن خلص قلبه من تلك الصفات وصفاه لم يطف الشيطان حول قلبه وإليه الاشارة بقوله تعالىإلا عبادك منهم المخلصين وبقوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان والسماع سبب لصفاء القلب وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء وعلى هذا يدل ما روى أن ذا النون المصري رحمه الله دخل بغداد فاجتمع إليه قوم من الصوفية ومعهم قوال فاستأذنوه في أن يقول لهم شيئا فأذن لهم في ذلك فأنشأ يقول صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا وأنت جمعت في قلبي هوى قد كان مشتركا أما ترثى لمكتئب إذا ضحك الخلى بكى فقام ذو النون وسقط على وجهه ثم قام رجل آخر فقال ذو النون الذي يراك حين تقوم فجلس ذلك الرجل وكان ذلك اطلاعا من ذي النون على قلبه أنه متكلف متواجد فعرفه أن الذي يراه حين يقوم هو الخصم في قيامه لغير الله تعالى ولو كان الرجل صادقا لما جلس فإذا قد رجع حاصل الوجد إلى مكاشفات والى حالات واعلم أن كل واحد منهما ينقسم إلى ما يمكن التعبير عنه عند الافاقة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلا ولعلك تستبعد حالة أو علما لا تعلم حقيقته ولا يمكن التعبير عنه عن حقيقته فلا تستبعد ذلك فإنك تجد في أحوالك القريبة لذلك شواهد أما العلم فكم من فقيه تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك الفقيه بذوقه أن بينهما فرقا في الحكم وإذا كلف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير وإن كان من أفصح الناس فيدرك بذوقه الفرق ولا يمكنه التعبير عنه وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق ولا يشك في أن لوقوعه في قلبه سببا وله عند الله تعالى حقيقة ولا يمكنه الأخبار عنه لا لقصور في لسانه بل لدقة المعنى في نفسه عن أن تناله العبارة وهذا مما قد تفطن له المواظبون على النظر في المشكلات وأما الحال فكم من إنسان يدرك في قلبه في الوقت الذي يصبح فيه قبضا أو بسطا ولا يعلم سببه وقد يتفكر إنسان في شيء فيؤثر في نفسه اثر فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحس به وقد تكون الحالة التي يحسها سرورا ثبت في نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور أو حزنا فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه وقد تكون تلك الحالة حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختص به بعض الناس دون بعض وهي حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها أعني التفرقة بين الموزون والمنزحف فلا يمكنه التعبير عنها بما يتضح مقصوده لمن لا ذوق له وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل المعاني المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم وأما الأوتار وسائر النغمات التي ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيرا عجيبا ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الآثار وقد يعبر عنها بالشوق ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه فهو عجيب والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار أو الشاهين وما أشبهه ليس يدري إلى ماذا يشتاق ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى امرا ليس يدري ما هو حتى يقع ذلك للعوام ومن لا يغلب على قلبه لا حب آدمي ولا حب الله تعالى وهذا له سر وهو أن كل شوق فله ركنان أحدهما صفة المشتاق وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه والثاني معرفة المشتاق إليه ومعرفة صورة الوصول إليه فإن وجدت الصفة التي بها الشوق ووجد العلم بصورة المشتاق إليه كان الأمر ظاهرا وإن لم يوجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها اورث ذلك دهشة وحيرة لا محالة ولو نشأ آدمي وحده بحيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحس من نفسه بنار الشهوة ولكن لا يدري انه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدري صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء فكذلك في نفسه الآدمي مناسبة مع العالم الأعلى واللذات التي وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا إلا أنه لم يتخيل من هذا الأمور إلا الصفات والاسماء كالذي سمع لفظ الوقاع واسم النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة فالسماع يحرك منه الشوق والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقره الذي إليه حنينه واشتياقه بالطبع فيتقاضاه قلبه أمرا ليس يدري ما هو فيدهش ويتحير ويضطرب ويكون كالمختنق الذي لا يعرف طريق الخلاص فهذا وامثاله من الأحوال التي لا يدرك تمام حقائقها ولا يمكن المتصف بها أن يعبر عنها فقد ظهر انقسام الوجد إلى ما يمكن إظهاره والى ما لا يمكن إظهاره واعلم أيضا أن الوجد ينقسم إلى هاجم والى متكلف ويسمى التواجد وهذا التواجد المتكلف فمنه مذموم وهو الذي يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها ومنه ما هو محمود وهو التوصل إلى استدعاء الأحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة فإن للكسب مدخلا في جلب الأحوال الشريفة ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن حديث البكاء عند قراءة القرآن فإن لم تبكوا فتباكوا تقدم في تلاوة القرآن في الباب الثاني فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها ثم تتحقق أواخرها وكيف لا يكون التكلف سببا في أن يصير المتكلف في الآخرة طبعا وكل من يتعلم القرآن أو لا يحفظه تكلفا ويقرؤه تكلفا مع تمام التأمل وإحضار الذهن ثم يصير ذلك ديدنا للسان مطردا حتى يجري به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه إلى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته وكذلك الكاتب يكتب في الابتداء بجهد شديد ثم تتمرن على الكتابة يده فيصير الكتب له طبعا فيكتب أوراقا كثيرة وهو مستغرق القلب بفكر آخر فجميع ما تحتمله النفس والجوارح من الصفات لا سبيل إلى اكتسابه إلا بالتكلف والتصنع أولا ثم يصير بالعادة طبعا وهو المراد بقول بعضهم العادة طبيعة خامسة فكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغي أن يقع اليأس منها عند فقدها بل ينبغي أن يتكلف اجتلابها بالسماع وغيره فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصا ولم يكن يعشقه فلم يزل يردد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرر على نفسه الأوصاف المحبوبة والاخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخا خرج عن حداختياره فاشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلص فكذلك حب الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة إذا فقدها الإنسان فينبغي أن يتكلف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها ومشاهدة أحوالهم وتحسين صفاتهم في النفس وبالجلوس معهم في السماع وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحلة بأن ييسر له اسبابها ومن أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحسنين والمشتاقين والخاشعين فمن جالس شخصا سرت إليه صفاته من حيث لا يدري ويدل على إمكان تحصيل الحب وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه اللهم ارزقني حبك وحب من احبك وحب من يقربني إلى حبك حديث اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك الحديث تقدم في الدعوات فقد فزع صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء في طلب الحب فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات والى أحوال وانقسامه إلى ما يمكن الافصاح عنه والى ما لا يمكن وانقسامه إلى المتكلف والى المطبوع فإن قلت فما بال هؤلاء لا يظهر وجدهم عند سماع القرآن وهو كلام الله ويظهر عند الغناء وهو كلام الشعراء فلو كان ذلك حقا من لطف الله تعالى ولم يكن باطلا من غرور الشيطان لكان القرآن أولى به من الغناء فنقول الوجد الحق هو ما ينشأ من فرط حب الله تعالى وصدق إرادته والشوق إلى لقائه وذلك يهيج بسماع القرآن أيضا وإنما الذي لا يهيج بسماع القرآن حب الخلق وعشق المخلوق ويدل على ذلك قوله تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب وقوله تعالى مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وكل ما يوجد عقيب السماع في النفس فهو وجد فالطمأنينة والاقشعرار والخشية ولين القلب كل ذلك وجد وقد قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وقال تعالى لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله فالوجل والخشوع وجد من قبيل الأحوال وإن لم يكن من قبيل المكاشفات ولكن قد يصير سببا للمكاشفات والتنبيهات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم زينوا القرآن بأصواتكم حديث زينوا القرآن بأصواتكم تقدم في تلاوة القرآن وقال لأبي موسى الأشعري لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود عليه السلام حديث لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود قاله لأبي موسى تقدم فيه وأما الحكايات الدالة على أن أرباب القلوب ظهر عليهم الوجد عند سماع القرآن فكثيرة فقوله صلى الله عليه وسلم شيبتني هود وأخواتها حديث شيبتني هود وأخواتها أخرجه الترمذي من حديث أبي جحيفة وله وللحاكم من حديث ابن عباس نحوه قال الترمذي حسن وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري خبر عن الوجد فإن الشيب يحصل من الحزن والخوف وذلك وجد وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النساء فلما انتهى إلى قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك وكانت عيناه تذرفان بالدموع حديث إن ابن مسعود قرأ عليه فلما انتهى إلى قوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال حسبك الحديث متفق عليه من حديثه وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذا الآية أو قرئ عنده إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما فصعق حديث أنه قرئ عنده إن لدينا انكالا وجحيما وطعام ذا غصة وعذابا أليما فصعق رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريقه من حديث أبي حرب بن أبي الأسود مرسلا وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قرأ إن تعذبهم فإنهم عبادك فبكى حديث إنه قرأ إن تعذبهم فإنهم عبادك فبكى أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر بآية رحمة دعا واستبشر حديث كان إذا مر بآية رحمة دعا واستبشر تقدم في تلاوة القرآن دون قوله واستبشر والاستبشار وجد وقد أثنى الله تعالى على أهل الوجد بالقرآن فقال تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل حديث أنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل من حديث عبد الله بن الشخير وقد تقدم وأما ما نقل من الوجد بالقرآن عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين فكثير فمنهم من صعق ومنهم من بكى ومنهم من غشي عليه ومنهم من مات في غشيته وروى أن زرارة بن أوفى وكان من التابعين كان يؤم الناس بالرقة فقرأ فإذا نقر في الناقور فصعق ومات في محرابه رحمه الله وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقرأ إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع فصاح صيحة وخر مغشيا عليه فحمل إلى بيته فلم يزل مريضا في بيته شهرا وأبو جرير من التابعين قرأ عليه صالح المري فشهق ومات وسمع الشافعي رحمه الله قارئا يقرأ هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون فغشى عليه وسمع على بن الفضيل قارئا يقرأ يوم يقوم الناس لرب العالمين فسقط مغشيا عليه فقال الفضيل شكر الله لك ما قد علمه منك وكذلك نقل عن جماعة منهم وكذلك الصوفية فقد كان الشبلي في مسجده ليلة من رمضان وهو يصلي خلف إمام له فقرأ الإمام ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك فزعق الشبلي زعقة ظن الناس أنه قد طارت روحه واحمر وجهه وارتعدت فرائصه وكان يقول بمثل هذا يخاطب الأحباب يردد ذلك مرارا وقال الجنيد دخلت على سري السقطي فرأيت بين يديه رجلا قد غشى عليه فقال لي هذا رجل قد سمع آية من القرآن فغشى عليه فقلت اقرءوا عليه تلك الآية بعينها فقرئت فأفاق فقال من أين قلت هذا فقلت رأيت يعقوب عليه السلام كان عماه من أجل مخلوق فبمخلوق أبصر ولو كان عماه من أجل الحق ما أبصر بمخلوق فاستحسن ذلك ويشير إلى ما قاله الجنيد قول الشاعر وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها وقال بعض الصوفية كنت أقرأ ليلة هذه الآية كل نفس ذائقة الموت فجعلت ارددها فإذا هاتف يهتف بي كم تردد هذه الآية فقد قتلت أربعة من الجن ما رفعوا رءوسهم إلى السماء منذ خلقوا وقال أبو علي المغازلي للشبلي ربما تطرق سمعي آية من كتاب الله تعالى فتجذبني إلى الإعراض عن الدنيا ثم أرجع إلى أحوالي والى الناس فلا أبقى على ذلك فقال ما طرق سمعك من القرآن فاجتذبك به إليه فذلك عطف منه عليك ولطف منه بك وإذا ردك إلى نفسك فهو شفقة منه عليك فإنه لا يصلح لك إلا التبري من الحول والقوة في التوجه إليه وسمع رجل من أهل التصوف قارئا يقرأ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فاستعادها من القارىء وقال كم أقول لها ارجعي وليست ترجع وتواجد وزعق زعقة فخرجت روحه وسمع بكر بن معاذ قارئا يقرأ وأنذرهم يوم الآزفة الآية فاضطرب ثم صاح ارحم من أنذرته ولم يقبل إليك بعد الإنذار بطاعتك ثم غشى عليه وكان إبراهيم ابن أدهم رحمه الله إذا سمع أحدا يقرأ إذا السماء انشقت اضطربت أوصاله حتى كان يرتعد وعن محمد بن صبيح قال كان رجل يغتسل في الفرات فمر به رجل على الشاطىء يقرأ وامتازوا اليوم أيها المجرمون فلم يزل الرجل يضطرب حتى غرق ومات وذكر أن سلمان الفارسي أبصر شابا يقرأ فأتى على آية فاقشعر جلده فأحبه سلمان وفقده فسأل عنه فقيل له إنه مريض فأتاه يعوده فإذا هو في الموت فقال يا عبد الله أرأيت تلك القشعريرة التي كانت بي فإنها أتتني في أحسن صورة فأخبرتني أن الله قد غفر لي بها كل ذنب وبالجملة لا يخلو صاحب القلب عن وجد عند سماع القرآن فإن كان القرآن لا يؤثر فيه أصلا ف مثله كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون بل صاحب القلب تؤثر فيه الكلمة من الحكمة يسمعها قال جعفر الخلدي دخل رجل من أهل خراسان على الجنيد وعنده جماعة فقال للجنيد متى يستوي عند العبد حامده وذامه فقال بعض الشيوخ إذا دخل البيمارستان وقيد بقيدين فقال الجنيد ليس هذا من شأنك ثم أقبل على الرجل وقال إذا تحقق أنه مخلوق فشهق الرجل شهقة ومات فإن قلت فإن كان سماع القرآن مفيدا للوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين فكان ينبغي أن يكون اجتماعهم وتواجدهم في حلق القراء لا حلق المغنين وكان ينبغي أن يطلب عند كل اجتماع في كل دعوة قارىء لأقوال فإن كلام الله تعالى أفضل من الغناء لا محالة فاعلم أن الغناء اشد تهييجا للوجد من القرآن من سبعة أوجه الوجه الأول أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم فمن أين يناسب حاله قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقوله تعالى والذين يرمون المحصنات وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه والأبيات إنما يضعها الشعراء إعرابا بها عن أحوال القلب فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف نعم من يستولي عليه حالة غالبة قاهرة لم تبق فيه متسعا لغيرها ومعه تيقظ وذكاء ثاقب يتفطن به للمعاني البعيدة من الألفاظ فقد يخرج وجده على كل مسموع كمن يخطر له عند ذكر قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم حالة الموت المحوج إلى الوصية وان كل إنسان لا بد أن يخلف ماله وولده وهما محبوباه من الدنيا فيترك أحد المحبوبين للثاني ويهجرهما جميعا فيغلب عليه الخوف والجزع أو يسمع ذكر الله في قوله يوصيكم الله في أولادكم فيدهش بمجرد الاسم عما قبله وبعده أو يخطر له رحمة الله على عباده وشفقته بأن تولى قسم مواريثهم بنفسه نظرا لهم في حياتهم وموتهم فيقول إذا نظر لاولادنا بعد موتنا فلا نشك بأنه ينظر لنا فيهيج منه حال الرجاء ويورثه ذلك استبشارا وسرورا أو يخطر له من قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين تفضيل الذكر بكونه رجلا على الأنثى وأن الفضل في الآخرة لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأن من ألهاه غير الله تعالى عن الله تعالى فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقا فيخشى أن يحجب أو يؤخر في نعيم الآخرة كما اخرت الانثى في أموال الدنيا فأمثال هذا قد يحرك الوجد ولكن لمن فيه وصفان أحدهما حالة غالبة مستغرقة قاهرة والآخر تفطن بليغ وتيقظ بالغ كامل للتنبيه بالأمور القريبة على المعاني البعيدة وذلك مما يعز فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها وروي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن ذكرت إلفا ودهرا صالحا وبكت حزنا فهاجت حزني فبكائي ربما أرقها وبكاها ربما أرقني ولقد أشكو فما أفهمها ولقد تشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها وهي أيضا بالجوى تعرفني قال فما بقي أحد من القوم إلا قام
alslwawy- عدد المساهمات : 49
تاريخ التسجيل : 28/10/2009
العمر : 54
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى